الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.
روى الترمذي وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله يقول: (قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيك بقرابها مغفرة)
ولقد أمر الله تعالى رسوله ـ وهو أتقى الخلق ـ بإخلاص الدين وإدامة الاستغفار، فقال عز وجل: فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَ ٱللَّهُ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ [محمد: 19]، فكان ملازمًا للاستغفار آناء الليل وأطراف النهار، حتى قال عن نفسه : (والله، إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) رواه البخاري ، وروى أبو داود والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نعد لرسول الله في المجلس الواحد مائة مرة يقول: (ربِّ اغفر لي وتب عليَّ، إنك أنت التواب الرحيم)
وهكذا شأن أرباب العزائم وأهل الإيمان الخلّص، يلجؤون إلى الله على الدوام، ويكثرون التوبة والاستغفار، صادقين مخلصين، غير يائسين ولا مصرين، قد ملأت خشية الله قلوبهم، ورسخت في مقام الإحسان أقدامهم، فهم بين مراقبة ربهم وشهود أعمالهم، ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلصَّـٰبِرِينَ وَٱلصَّـٰدِقِينَ وَٱلْقَـٰنِتِينَ وَٱلْمُنفِقِينَ وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ بِٱلأسْحَارِ [آل عمران: 16، 17]. أولئك هم العارفون المتقون، يؤدون الفرائض، ويكثرون من الطاعات والنوافل، ثم يسارعون إلى الاستغفار خشية التقصير أو الإخلال فيما قدموا من صالح الأعمال، كَانُواْ قَلِيلاً مّن ٱلَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِٱلأَسْحَـٰرِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات: 17، 18].
وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا فرغ من صلاته بادر إلى الاستغفار، وحجاج بيت الله الحرام مأمورون بالاستغفار بعد الإفاضة من عرفة والمشعر الحرام، ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (البقرة 199 )
وإذا كثر الاستغفار في الأمة وعم أفرادها وصدر عن قلوب موقنة مخلصة دفع الله به عن العباد ضروبًا من البلاء والنقم وصنوفًا من الرزايا والمحن، كما قال عز وجل: وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: 33].
وإن من آثار الاستغفار أنه سبب لنزول الغيث المدرار وحصول البركة في الأرزاق والثمار وكثرة النسل والنماء، كما قال سبحانه حكاية عن نوح عليه السلام: فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ ٱلسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوٰلٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـٰتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10-12].
والمستغفرون يمتعهم ربهم متاعًا حسنًا، فيهنؤون بحياة طيبة، ويسبغ عليهم سبحانه مزيدًا من فضله وإنعامه، وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود: 3].
وفي ملازمة الاستغفار تفريج الكرب والهموم والمخرج من ضائقات الأمور وحصول الرزق من حيث لا يحتسب العبد، ففي الحديث عند الإمام أحمد وأبي داود وابن ماجه: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب).
فهذه بعض فضائل الاستغفار ومنافعه، جلاّها لنا ربنا في كتابه، وأفصح عنها رسوله فيما صح من خبره، تحمل أهل الإيمان وأرباب التقوى على البدار بالتوبة وكثرة الاستغفار، غير أن هذه المنح الإلهية والفضائل الربانية إنما تحصل للمستغفرين الله تعالى حقًا وصدقًا، إذ الاستغفار ليس بأقوال ترددها الألسن وعبارات تكرر بين الحين والآخر فحسب، وإنما الاستغفار الحق ما تواطأ عليه القلب واللسان، وندم صاحبه على ما بدر منه من ذنوب وآثام، وعزم أن لا يعود على اقتراف شيء من ذلك، إذ هذه أركان التوبة النصوح التي أمر الله تعالى بها العباد، ووعد عليها تكفير الخطيئات والفوز بنعيم الجنات، فقال عز شأنه: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ [التحريم: 8]. قال الإمام القرطبي رحمه الله: "قال علماؤنا: الاستغفار المطلوب هو الذي يحل عقد الإصرار، ويثبت معناه في الجنان، وليس التلفظ بمجرد اللسان، فمن استغفر بلسانه وقلبه مصرّ على معصيته فاستغفارُه يحتاج إلى استغفار"[7]، وقال بعض العلماء: "من لم يكن ثمرة استغفاره تصحيح توبته فهو كاذب، والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه .
وإن من نفاذ البصيرة وصدق الإيمان كثرة التوبة والاستغفار على الدوام، فذلك هدي رسول الهدى مع أن الله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يقول أبو هريرة : ما رأيت أكثر استغفارًا من رسول الله
وإن مما صح عنه عليه الصلاة والسلام من جوامع أدعية الاستغفار ومما وجه الأمة إليه ما روى البخاري في صحيحه عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله قال: (سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء
بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها من النهار موقنًا فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة) ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : (من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه؛ غفرت ذنوبه وإن كان قد فرّ من الزحف) رواه أبو داود والترمذي والحاكم ، وفي الصحيحين أنه كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي), وروى مسلم في صحيحه أن من آخر ما كان يقول في صلاته قبل التسليم: (اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر, لا إله إلا أنت).